"كنّا ونبقى لأنّا المؤمنون به..." هكذا قال سعيد عقل.
مؤمنون بجبال احتضنتنا وحمَت أجدادنا خلال قرون من الاضطهاد والجوع والحروب.
رسالة واحدة من البابا غرِيغوريوس الثالث عشر الى البطريرك مخائيل الرازي في لبنان عام 1577 كانت كافية لأن تنقل أبناء جبل لبنان من الظلمة الى النور. (رسالة باللغة اللاتينية لم يُتح لها مترجم إلا بعد تسعة أشهر). فكانت بداية التغيير!
"كرّاس وقلم وشمعة مضويّة وخبز مبلّل بشاي الزعتر"، ورهبان من صخر وسنديان، غيّروا وجه المشرق العربي.
أضاؤوا بيوت أبناء جبل لبنان بالعِلم، وحملوا البلد الصغير من نواة أودية وتلال مزروعة بالصلبان الى الخارطة العالمية... جمهوريةً لبنانية.
هُم "وْلاد الصخْر والوعْر"، أحفاد كبار البطاركة القديسين الذين رفعوا سيف الدفاع عن الأرض. قُتلوا وأُحرقوا أحياءً عام 1367، ودُفنوا في غير التراب الذي تمنّوا ان يلفّهم، وأصبحوا مزاراً لطالبي الشفاء لدى المسلمين.
نتحدث عن طلاب المدرسة المارونية في روما: أشبال دون الرابعة عشرة من العُمر، سمحت لهم القوانين العثمانية بالسفر، فأبحروا بسراويلهم التركيّة في قوارب صغيرة مجابهين أمواج المتوسط، متوجهين إلى روما أرض القديس بطرس وصخرة الدين المسيحي، إلى الفاتيكان.
تعذبوا، ومات البعض منهم بسبب المناخ الجديد. عانوا من الضغوط السياسية والدينية والاقتصادية، لكنهم صمدوا. ومن خلال ثماني غرف ومطبخ وقبو "وكنيسة مار يوحنا الذهبيّ الفَم" الملاصقة للمدرسة، أصبحوا جسراً عَبَرَ منه أبناء جبل لبنان الى ضفّة العلم والمعرفة، وعرفت من خلالهم أوروبا ثقافات العالم العربي القديم ولغاته.
ومن قنّوبين وإهدن وميفوق وكفرحي، حامية المضطَهدين، الى روما العِلم والتغيير والكُتب، حملَ ابن المدرسة المارونية في روما البطريرك يوسف الحويّك إيمانه وسافرَ الى فرساي في فرنسا عام 1919، وعاد متأبّطاً خريطة دولة لبنان الكبير.
تواصلوا مع الغرب. عانَوا احتلال نابوليون بونابرت. تمردوا وقاوموا بصلابة... وبقوا موارنة، إخوة الـ350 راهبا شهيدا، أبناء القديس مارون، على الرغم من محاولات "اللّيتنَة" التي فرضها الفاتيكان. ومن قلب أنطاكيا، ولدت طائفةٌ غيّرت قوانين روما الإدارية ووجه المشرق العربيّ.
جبرائيل ابن القلاعي، من قرية لحفد في جبيل، كان أول من شقّ طريق العلم من لبنان الى روما عام 1469. والبطريرك "سمعان الحدثي" أوفد فريقاً من الرهبان برفقة حارس الأراضي المقدسة فرنسيس سوريانو، لاستيراد العلم والمعرفة من دولة الفن والإيمان. وفي العام 1542، أرسلت روما ستة رهبان فرنسيسكان لإدارة مدرسة في لبنان في دير السيدة مريم في وادي قاديشا، لتعليم "الشعب الفقير قراءة اللغة اللاتينية وكتابتها".
٤٤٠ سنة مرت على تأسيس "المدرسة المارونية الحبرية الرومانية" التي كان لها الفضل الأكبر في تأسيس "مدرسة تحت السنديانة" التي انتشرت في مختلف القرى اللبنانية، وتحولت بعدها الى مربعات من حجارة الجبال، لتعليم الأطفال اللبنانيين القراءة والكتابة، كرشوني ثم سرياني ثم عربي.
أبناء حصرون وشدرا وبان والعاقورة، كانوا المعلّمين الأوائل الذين حملوا الكتب العربية الى روما وعادوا بها محمّلة باللغات الأجنبية. اتُّهِموا بالتواطؤ مع الغرب في محاضر العثمانيين، وتعرضوا للعقوبات، وهربوا في القوارب ليلاً من جبيل، بعيداً عن أعيُن حرّاس السلطنة، فخُطفَ من خُطف، واعتُقِل آخرون، وسيقوا الى "السّخرة". لكنّ القلم انتصر على السيف والبندقية، فشقّوا طريقهم نحو العلوم، وكان من تلامذتهم أدباء النهضة اللبنانيّون الذين أصبحوا مادة أدبية تُدرَّس في مدارس الدول العربية كافة.
بمناسبة مرور 440 عاماً على تأسيس المدرسة المارونيّة في روما، نظّمت جامعة الروح القدس-الكسليك معرضاً في الأمم المتحدة في نيويورك، عرضت فيه تاريخ ونجاحات المدرسة وفضلها على التعليم والثقافة في لبنان. وقد تعاون رئيس مركز فينيكس للدراسات اللبنانية في الجامعة الأب جوزيف مكرزل مع الزميلة الصحافيّة سمر نادر في الأمم المتحدة لتنظيم هذا المعرض الذي استغرق تحضيره أكثر من عام. وبحضور عدد كبير من السفراء والدبلوماسيين، وعلى رأسهم سفراء أميركا وفرنسا واليونان ودبلوماسيين من قبرص، مصر، العراق، الأردن، كوبا، الأرجنيتن، هولندا، بيلاروسيا، روسيا وبيلاروسيا... وغيرهم، الى جانب عدد من الكهنة اللبنانيين المعتمدين في الولايات المتحدة، ومن لبنان حضر رئيس بلدية جونية السيد جوان حبيش إضافة الى قنصل عام لبنان في نيويورك مجدي رمضان وعدد كبير من أبناء الجالية اللبنانية في نيويورك.
افتتح رئيس جامعة الكسليك الأب طلال الهاشم المعرض بكلمة شرحت أفضال المدرسة المارونية في روما على لبنان العِلْمِ والثقافة. قدمت الحفل المخرجة الأميركية، اللبنانية الأصل، إبنة العاقورة لويز نصرالله.
تمّ عرض 23 لوحة وعشرة كتب ومخطوطات قديمة تعود للقرن الخامس عشر، تمثل حقبة امتدت خلال 440 سنة من النضال في وجه الجهل والظلم في لبنان، حيث تصدَّرَت المعرضَ صورةُ المطبعة الأولى في الشرق، في دير مار امطانيوس قزحيا عام 1585، وصوَرُ الصحف العربية الأولى التي انتشرت في العالم العربي والأميركتَيْن، على يد أوائل طلاب مدرّسي المدرسة المارونية في روما.
رعى الافتتاح القائمُ بأعمال بعثة لبنان لدى الأمم المتحدة الأستاذ هادي هاشم، فأثنى على حضور الموارنة في الشرق ودلالات نجاحهم، وشرح كيف "أن لبنان عبارة عن فسيفساء تعكس تنوعه، فيما يتعلق بالثقافة والدين والتعليم، كما ذكر قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، "أكثر من مجرد بلد بل إنه رسالة".
وأضاف: "قدّم الموارنة مساهمات لا تقدر بثمن في مجالات التعليم والأدب والفن والعلم والفلسفة والدبلوماسية".
وعن رهبان المدرسة المارونية، قال القنصل هادي هاشم: "ساهمت جهود طلاب المدرسة المارونية في بناء جسور دائمة بين ثقافات البحر الأبيض المتوسط والعالم الأوسع". وعن أول مدرسة رسمية في لبنان، قال مضيفاً: "من روما إلى لبنان، شارك الموارنة في افتتاح المدارس في القرى، ومن بينها كلية "عين ورقا" التي تأسست عام 1789 في غوسطا التي أطلق عليها اسم "أم المدارس في لبنان وسوريا"، والتي سرعان ما أصبحت ركيزةً مهمة في نظام التعليم العالي الحديث".
رئيس جامعة الروح القدس الأب طلال الهاشم شرح عن الجسر الثقافي اللبناني الذي بدأ منذ أكثر من أربعة قرون وما زال يعبُر منه عمالقة الأدب اللبناني الذين نقلوا لبنان الى العالمية أمثال جبران خليل جبران وأمين معلوف، وأضاء على دور لبنان الريادي في الشرق الأوسط من خلال أبنائه المسيحيين المناضلين في كافة العلوم. استهل الأب هاشم كلمته متحدثاً عن "دور جامعة الروح القدس الكسليك التي تعمل على حماية وحفظ التراث الثقافي في المشرق وتعزيزه في جميع أنحاء العالم. في واقع الأمر، وبشكل خاص بالكنائس المسيحية الشرقية بينما تركز على الموارنة، المجتمع الذي ننتمي إليه والذي امتد إلى أراضي جميع الأمم تقريبًا التي تتجمع تحت سقف واحد يحمينا اليوم".
وأضاف الأب الهاشم: "لم تكن رحلة الموارنة ممكنة إلا بفضل قوة الجسر الذي بناه المجتمع بين الحضارات الشرقية والغربية. الموارنة، باعتبارهم حزام نقل القيم والمبادئ: إن احترام القيم الإنسانية والأفراد، بغض النظر عن أصولهم، والدعوة إلى التسامح والانفتاح، كانت وستظل دائماً في صميم مجتمعنا".
وختم الأب هاشم قائلاً بأن "الموارنة ساهموا بنجاح في نشر المعرفة والسلام في لبنان والمشرق العربي".
لحظات تاريخية عبَرَ فيها دبلوماسيو الأمم المتحدة وموظفوها وضيوف المعرض الى الزمن القديم، الى قرون في الشرق عابقة برائحة البخور والحبر، حيث كان صوت الراهب المعلّم أقوى من صوت حوافر خيول العسكر العثماني الذي طارد اصحاب الإيمان بالثقافة، ولم يستطِع أي فاتح او محتل او منتدِب ان يكسر عزمهم وتعلقهم بلبنان، الذي كما قال فيه الشاعر مارون كرم: "بتضلّ بيضا رايتو... والمجد يحكي حكايتو... وشو بخبّرك عن بيت من لبنان"!.
الأمم المتحدة-نيويورك